تقرير إلى غريكو
«تقريري إلى غريكو» ليس سيرة ذاتية، فحياتي الشخصية لها بعض القيمة، وبشكل نسبي تماماً، بالنسبة لي وليس بالنسبة لأي شخص آخر، والقيمة الوحيدة التي أعرفها فيها كانت في الجهود من أجل الصعود من درجة إلى أخرى للوصول إلى أعلى نقطة يمكن أن توصلها غليها قوتها وعنادها، القمة التي سميتها تسمية اعتباطية بـ«الإطلالة الكريتية».
ولذلك فإنك، أيها القارئ، ستجد في هذه الصفحات الأثر الأحمر الذي خلفتع قطرات من دمي، الأثر الذي يشير إلى رحلتي بين الناس والعواطف والأفكار. كل إنسان، يستحق أن يدعي بابن الإنسان، عليه أن يحمل صليبه ويصعد جلجلته. كثيرون، والحقيقة معظمهم، يصلون إلى الدرجة الأولى أو الثانية. ثم ينهارون لاهثين في منتصف الرحلة، ولا يصلون إلى ذروة الجلجلة، بمعنى آخر ذروة واجبهم. أن يصلبوا، وأن يبعثوا، وأن يخلصوا أرواحهم. تضعف قلوبهم لخوفهم من الصلب، وهم لا يدرون أن الصليب هو الطريق الوحيد للبعث، ولا طريق غيره.
الزير سالم البطل بين السيرة و التاريخ
الجدل الذي دار على صفحات الصحف والمجلات والندوات التلفزيونية حول مسلسل الزير سالم نقل هذا المسلسل من كونه مادة ترفيهية تنتهي عند (يعجبني أو لا يعجبني)، إلى كونه مادة ثقافية يحتاج نقاشها إلى مرجعية معرفية.
كانت النهاية التي انتهى إليها الزير سالم في المسلسل من أكثر الموضوعات المثيرة للجدل. فالسيرة الشعبية تنتهي عند انتصار الزير وتمكن الجرو من قتل خاله جساس وإذلال بني بكر. لكن التاريخ لا يتوقف عند المزاج الشعبي التي تتفاعل معه السيرة.
الناس يدافعون عن الصورة النمطية التي في أذهانهم عن البطل. والحقيقة التاريخية تخرب هذه الصورة وتشوهها. ولذلك فإن إنكار هذه الحقيقة أسهل عليهم من تقبلها. ويأتي الإنكار إما من خلال اتهامنا بالتزوير، أو بالتحريف من أجل الإسقاط، أو بالجهل بالتاريخ أو بالسيرة. ناهيك عن الاتهام بمعاداة الأمة وتشويه صور أبطالها.
هذا كله ولّد لنا فرصة لمناقشة جدية حول الدراما وعلاقتها بالتاريخ وبالسيرة الشعبية، من خلال الرد على بعض الطروحات، لعل هذه المناقشة تعود بفائدة ما على القارئ، وتلقي الضوء على بعض الالتباسات التي حدثت.
دفاعاً عن الجنون
كان لدى الإنسان حلم جميل حول نفسه، وكان يصبو إلى السمو على شرطه الإنساني، ولكن تتالي الظروف فتح في هذا الحلم، جرحاً. وبدأ الحلم ينزف ويضمحل. وراح يتخذ، مع ضموره، أشكالاً وتسميات بين حين وآخر ينتبه الإنسان إلى خسارته الفاجعة، هذه، فيدرك أنه صار يجهد لمنع نفسه من الإنحدار عن مستواه الإنساني إلى مستوى الحيوان، وحين يقاوم تتخذ مقاومته شكلاً من أشكال الجنون، وفي هذا الكتاب محاولة لتلمس شيء من هذا النزيف وفي إطار التعبير الإبداعي بشكل خاص. ولعل هذه (المقدمات) أن تكون (مقدمة) لبحث، أو أبحاث، أكثر شمولاً، ولكننا الآم في مرحلة الدفاع عن حقنا في الجنون.
حيونة الانسان
إذا كان الأمر كذلك، فكم فقدنا من كرامتنا وتضامننا الانساني واحساسنا بانسانيتنا حتى صرنا نتعود الاذلال المحيط بنا، لنا ولغيرها؟! وحتى صرنا نقبل هذا العنف والتعامل غير الانساني الذي نعامل نحن به او يعامل به غيرها على مرأى منا في الحياة او حين نقرأ عنه او نراه على شاشات التلفزيون. (وسنتجاهل اننا نحن نعامل غيرنا احيانا بهذه الطريقة: اولادنا او مرؤوسينا او الذين يقعون بين ايدينا من اعدائنا مثلا، او السجناء الذين بين ايدينا، مفترضا ان بعض من يقومون بهذه المهمات يمكن ان يقرؤوا ما اكتب).
وينعكس تعودنا على هذا الاذلال في اننا صرنا نتعد ان تعذيب السجين امر مفروغ منه. لم نعد نتساءل عن اثر ذلك التعذيب في السجين الضحية، حتى بعد خروجه من السجن، كما اننا لم نعد نتساءل عن اثر التعذيب في منفذه. وهل يستطيع بسهولة ان يعود الى حياته اليومية العادية بعد خروجه من غرفة التعذيب، كما لو انه خرج من المرحاض لكي يستأنف حياته.
وهذه هي اول مرة اجمع بها افكاري حول هذا الموضوع بعد محاولات عديدة ومقالات مبعثرة في اكثر من مكان.